فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله} أي بأن اعبدوا الله ووحدّوه.
{واجتنبوا الطاغوت} أي اتركوا كلّ معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال.
{فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} أي أرشده إلى دينه وعبادته.
{وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يردّ على القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله هدى الناس كلّهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} وقد تقدم هذا في غير موضع.
{فَسِيرُواْ فِي الأرض} أي فسيروا معتبرين في الأرض.
{فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك.
قوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم.
{فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده.
وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة.
ف {يَهْدِي} فعل مستقبل وماضيه هَدَى.
و{مَن} في موضع نصب ب {يهدي} ويجوز أن يكون هَدَى يَهْدِي بمعنى اهتدى يهتدي؛ رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ {أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35]. بمعنى يهتدي.
قال أبو عبيد.
ولا نعلم أحدًا روى هذا غير الفراء، وليس بمتَّهم فيما يحكيه.
النحاس: حكي لي عن محمد بن يزيد كأنّ معنى {لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ} من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده، قال: ولا يكون يهدي بمعنى يهتدي إلا أن يكون يُهْدَى أو يُهْدِي.
وعلى قول الفراء {يَهْدِي} بمعنى يهتدي، فيكون {من} في موضع رفع، والعائد إلى {من} الهاء المحذوفة من الصلة، والعائد إلى اسم {إن} الضمير المستكِنّ في {يُضِل}.
وقرأ الباقون: {لا يُهدَى} بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على معنى من أضله الله لم يهده هادٍ؛ دليله قوله: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، و{مَن} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يُسَمَّ فاعله، وهي بمعنى الذي، والعائد عليها من صلتها محذوف، والعائد على اسم إن من {فإنّ الله} الضمير المستكِنّ في {يُضِل}.
{وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} تقدم معناه.
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}.
هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت.
ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجّزونه عن بعث الأموات.
وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت؛ فنزلت الآية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا ابن عباس، إن ناسًا يزعمون أن عليًّا مبعوث بعد الموت قَبْل الساعة، ويتأوّلون هذه الآية.
فقال ابن عباس: كذب أولئك! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان عليّ مبعوثًا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
{بلى} هذا ردّ عليهم؛ أي بلى ليبعثنهم.
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} مصدر مؤكّد؛ لأن قوله: {يبعثهم} يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدًا حقًا.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنهم مبعوثون.
وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وأما شتمه إيّاي فقوله اتخذ الله ولدًا وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُؤًا أحد» وقد تقدّم ويأتي.
قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أي ليظهر لهم. {الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي من أمر البعث.
{وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} بالبعث وأقسموا عليه {أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} وقيل: المعنى ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا ليبين لهم الذي يختلفون فيه، والذي اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الأصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدًا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد؛ كأبي طالب. اهـ.

.قال الخازن:

{ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا} يعني كما بعثنا فيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} يعني أن الرسل كانوا يأمرونهم بأن يعيدوا الله وأن يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو اسم كل معبود من دون الله {فمنهم} يعني فمن الأمم الذين جاءتهم الرسل {من هدى الله} يعني هداه الله إلى الإيمان به وتصديق رسله {ومنهم من حقت عليه الضلالة} يعني، ومن الأمم من وجبت عليه الضلالة بالقضاء السابق في الأزل حتى مات على الكفر والضلال، وفي هذه الآية أبين دليل على أن الهادي، والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض لأحد عليه بما حكم به في سابق علمه {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} يعني فسيروا في الأرض معتبرين متفكرين لتعرفوا مآل من كذب الرسل، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك، ولتعرفوا أن العذاب نازل بكم إن أصررتم على الكفر والتكذيب كما نزل بهم.
قوله سبحانه وتعالى: {إن تحرص على هداهم} إلخ.طاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء، وإيمانهم وتجتهد كل الاجتهاد {فإن الله لا يهدي من يضل} قرئ بفتح الياء وكسر الدال يعني لا يهدي الله من أضله، وقيل: معناه لا يهتدي من أضله الله وقرئ بضم الياء، وفتح الدال ومعناه من أضله الله فلا هادي له {وما لهم من ناصرين} أي مانعين يمنعونهم من العذاب {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} قال ابن الجوزي: سبب نزولها أن رجلًا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به المسلم: والذي أرجوه بعد الموت.
فقال المشرك: إنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فنزلت هذه الآية قاله أبو العالية.
وتقرير الشبهة التي حصلت للمشركين في إنكار البعث بعد الموت أن الإنسان ليس هو، إلا هذه البنية المخصوصة، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فهذا هو أصل شبهتهم ومعتقدهم في إنكار البعث بعد الموت، فذلك قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} فرد الله عليهم ذلك، وكذبهم في قولهم فقال تعالى: {بلى} يعني بلى يبعثهم بعد الموت لأن لفظة بلى إثبات لما بعد النفي.
والجواب عن شبهتهم أن الله سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأوجده من العدم ولم يك شيئًا فالذي أوجده بقدرته ثم أعدمه قادر على إيجاده بعد إعدامه لأن النشأة الثانية أهون من الأولى {وعدًا عليه حقًا} يعني أن الذي وعد به من البعث بعد الموت وعد حق لا خلف فيه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يعني لايفهمون كيف يكون ذلك العود والله سبحانه وتعالى، قادر على كل شيء.
{ليبين لهم الذي يختلفون فيه} يعني من أمر البعث ويظهر لهم الحق الذي لا خلق فيه {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} يعني في قولهم لا بعث بعد الموت. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
قال الزمخشري: ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيه الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولًا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله واجتناب الشر الذي هو الطاغوت فمنهم من هدى الله أي لطف به، لأنه عرفه من أهل اللطف، ومنهم من حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف، لأنه عرفه مصممًا على الكفر لا يأتي منه خير.
فسيروا في الأرض فانظروا ما فعلت بالمكذبين حتى لا تبقى لكم شبهة وإني لا أقدر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
ولما قال: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين، بيَّن ذلك هنا بأنه بعث الرسل بعبادته وتجنب عبادة غيره، فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر، ثم أحالهم في معرفة ذلك على السير في الأرض واستقراء الأمم، والوقوف على عذاب الكافرين المكذبين، ثم خاطب نبيه وأعلمه أنّ من حتم عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته.
وقرأ النخعي: {وإن} بزيادة واو وهو والحسن، وأبو حيوة: تحرص بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة.
وقرأ الجمهور بالكسر مضارع حرص بالفتح، وهي لغة الحجاز.
وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابن سيرين: {لا يهدي} مبنيًا للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله.
والفاعل في {يضل} ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره: من يضله الله.
وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة: {يهدي} مبنيًا للفاعل.
والظاهر أنّ في {يهدي} ضميرًا يعود على الله، و{من} مفعول، وعلى ما حكى الفراء أنّ هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازمًا، والفاعل من أي لا يهتدي من يضله الله.
وقرأت فرقة منهم عبد الله: {لا يهدي} بفتح الياء وكسر الهاء والدال.
كذا قال ابن عطية، ويعني: وتشديد الدال وأصله يهتدي، فأدغم كقولك في: يختصم يخصم.
وقرأت فرقة: {يهدي} بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى.
وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة، لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى: لا يجعل مهتديًا من أضله، وفي مصحف أُبي: لا هادي لمن أضل.
وقال الزمخشري: وفي قراءة أبيّ {فإنّ الله لا هادي لمن يضل} و{لمن أضل}.
وقرئ: {يضل} بفتح الياء، وقال أيضًا: حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمان قريش، وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يهدي من يضل أي: لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث، والله تعالى متعالٍ عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
والضمير في لهم عائد على معنى من، والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش.
وعن أبي العالية: نزلت في رجل من المسلمين تقاضى دينًا على رجل من المشركين، فكان فيما تكلم به المسلم الذي ادخره بعد الموت فقال المشرك، وأنكر أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، بلى رد عليه ما نفاه، وأكده بالقسم، والتقدير: بلى يبعثه.
وانتصب وعدًا وحقًا على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه.
وقال الحوفي: حقًا نعت لو عدا.
وقرأ الضحاك: {بلى وعد حق} والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد.
وقال الزمخشري: وأقسموا بالله معطوف على وقال الذين أشركوا، إيذانًا بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا، توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه، وبيّن أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون، أو أنه وعد واجب على الله لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
وأكثر الناس هم الكفار المكذبون بالبعث.
وأما قول الشيعة: إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعليّ بن أبي طالب، وأن الله سيبعثه في الدنيا، فسخافة من القول.
والقول بالرجعة باطل وافتراء على الله على عادتهم، رده ابن عباس وغيره.
واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي: نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل: ما ضربت أحدًا فيقول: بلى زيدًا أي: ضربت زيدًا.
ويعود الضمير في يبعثهم المقدر، وفي لهم على معنى من في قوله: {من يموت} وهو شامل للمؤمنين والكفار.
والذي اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله، وإنكار النبوّات، وإنكار البعث، وغير ذلك مما أمروا به.
وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إلى الله تعالى.
وقال الزمخشري: إنهم كذبوا في قولهم: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت انتهى.
وفي قولهم دسيسة الاعتزال.
وقيل: تتعلق ليبين بقوله: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا} أي: ليظهر لهم اختلافهم، وأنّ الكفار كانوا على ضلالة من قبل بعث ذلك الرسول، كاذبون في رد ما يجيء به الرسل. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا}.
تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثوابُ والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم، أي بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولًا خاصًا بهم {أَنِ اعبدوا الله} يجوز أن تكون {أن} مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً، أي بعثنا بأن اعبدوا الله وحده {واجتنبوا الطاغوت} هو الشيطانُ وكلُّ ما يدعو إلى الضلالة {فَمِنْهُمْ} أي من تلك الأمم، والفاء فصيحة، أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم {مَّنْ هَدَى الله} إلى الحق الذي هو عبادتُه واجتنابُ الطاغوت بعد صَرْفِ قدرتهم واختيارِهم الجزئيّ إلى تحصيله {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعِناده وإصرارِه عليها وعدمِ صرفِ قدرته إلى تحصيل الحق، وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمِه، لا بطريق القسرِ والإلجاء حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده {فَسِيرُواْ} يا معشرَ قريش {فِى الأرض فانظروا} في أكنافها {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من عاد وثمودَ ومن سار سيرتَهم ممن حقت عليهم الضلالةُ لعلكم تَعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثارَ الهلاك والعذابِ، وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان، وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء.
{إِن تَحْرِصْ} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرئ بفتح الراء وهي لغة {على هُدَاهُمْ} أي إن تطلب هدايتَهم بجهدك {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} أي فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهدايةَ جبرًا وقسرًا فيمن يخلق فيه الضلالةَ بسوء اختيارِه، والمرادُ به قريش، وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالةُ وللإشعار بعلة الحكم، ويجوز أن يكون المذكورُ علةً للجزاء المحذوف، أي إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لا يهدي من يُضله وهؤلاء من جملتهم، وقرئ {لا يهدى} على بناء المفعول أي لا يقدر أحدٌ على هداية من يضله الله تعالى، وقرئ {لا يهَدّي} بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدي في الدال، ويجوز أن يكون يهدي بمعنى يهتدي، وقرئ {يُضل} بفتح الياء، وقرئ {لا هاديَ لمن يُضِل} و{لمن أضل} {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذابَ عنهم، وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلةَ الجمعِ بالجمع يقتضي انقسامَ الآحادِ إلى الآحاد لا لأن المرادَ نفيُ طائفةٍ من الناصرين من كل منهم.
{وَأَقْسَمُواْ بالله} شروع في بيان فن آخرَ من أباطيلهم وهو إنكارُ البعث {جَهْدَ أيمانهم} مصدرٌ في موقع الحال أي جاهدين في أيمانهم {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغَ ردَ بقوله الحق {بلى} أي بلى يبعثهم {وَعْدًا} مصدر مؤكد لما دل عليه بلى، فإن ذلك موعدٌ من الله سبحانه، أو المحذوفِ، أو وعَد بذلك وعدًا {عَلَيْهِ} صفة لوعدًا أي وعدًا ثابتًا عليه إنجازُه لامتناع الخُلفِ في وعده، أو لأن البعثَ من مقتضيات الحِكمة {حَقًّا} صفةٌ أخرى له أو نصبٌ على المصدرية أي حقَّ حقًا {ولكن أَكْثَرَ الناس} لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرةِ والحكمة وغيرِها من صفات الكمالِ، وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدمِ وقوفِهم على سرّ التكوين والغايةِ القصوى منه، وعلى أن البعثَ مما يقتضيه الحكمةُ التي جرت عادتُه سبحانه بمراعاتها {لاَّ يَعْلَمُونَ} أنه يبعثهم فيِبْنون القولَ بعدمه أو أنه وعدٌ عليه حق فيكذبونه قائلين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين}.
{لِيُبَيّنَ لَهُمُ} غايةٌ لما دل عليه بلى من البعث، والضمير لمن يموت إذ التبيينُ يعم المؤمنين أيضًا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لأنه عند معاينةِ حقيقةِ الحال يتضح الأمرُ فيصل علمُهم إلى مرتبة عينِ اليقين، أي يبعثهم ليبينَ لهم بذلك وبما يحصُل لهم من مشاهدة الأحوالِ كما هي ومعاينتِها بصورها الحقيقيةِ الشأن {الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من الحق المنتظمِ لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرعُ المبين ويدخل فيه البعثُ دخولًا أوليًا {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} بالله سبحانه بالإشراك وإنكارِ البعث وتكذيبِ وعده الحق {أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين} في كل ما يقولون لاسيما في قولهم: لا يبعث الله من يموت، والتعبيرُ عن الحق بالموصول للدِلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلةِ للتبيين وما عُطف عليه وما جعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار ورودِه في معرِض الردّ على المخالفين، وإبطال مقالةِ المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويُلجِئهم إلى الإذعان للحق، فإن الكفرة إذا علِموا أن تحقيقَ البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كانوا كاذبين في إنكاره كان ذلك أزجرَ لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمةِ على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلّي: لأصَلينّ رغمًا لأنفك وإظهارًا لكذبك، ولأن تكررَ الغايات أدلُّ على وقوع الفعل المُغيّا بها وإلا فالغايةُ الأصلية للبعث باعتباره ذاتَه إنما هو الجزاء الذي هو الغايةُ القصوى للخلق المُغيّا بمعرفته عز وجل وعبادته، وإنما لم يُذكر ذلك لتكرر ذكرِه في مواضعَ أُخَرَ وشهرتِه، وإنما لم يُدرَج علمُ الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال: وإن الذين كفروا كانوا كاذبين، بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبيينُ الذي هو عبارةٌ عن إظهار ما كان مُبهمًا قبل ذلك بأن يخبرَ به فيُختلفَ فيه، كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون، وأما كذِبُ الكافرين فليس من هذا القبيل فما يتعلق به علمٌ ضروريٌّ حاصل هلم من قِبل أنفسِهم، وقد مر تحقيقُه في سورة التوبة عند قوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} وإنما خُص الإسنادُ بهم حيث لم يقل: وليعلموا أن الكافرين الآية، لأن علمَ المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضًا. اهـ.